كتاب: تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



وأما قول بعضهم: إنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه.
وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم: فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان، الذي مادته ن س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.
وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم: أنسن، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.
فإن قلت: فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا؟
قلت: يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له. وذلك كله فاسد، على أن {الناس} قد قيل: إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل: الناس. واستدل بقول الشاعر:
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا

ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس- على هذا القول-: عال. لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول: يكون وزنه: فعل. لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف: يكون وزنه: فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا وزنه فلعا.
والمقصود: أن {الناس} اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل: لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال.
كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} [72: 6] فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم: الناس؟.
قلت: هذا هو الذي غرّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك: وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فاللّه سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [55: 33].
وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يقتضى أنهما متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ: {الناس} لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
فالصواب: القول الثاني. وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني.
قال تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [6: 112].
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا: تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول: إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط.
فتأمله فإنه بديع جدا.
فهذا ما من اللّه به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين. وله الحمد والمنة. وعسى اللّه أن يساعد بتفسير على هذا النمط. فما ذلك على اللّه بعزيز. والحمد للّه رب العالمين.
ونختم الكلام على السورتين بذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره، ويحترز به منه.
وذلك عشرة أسباب:
أحدها: الاستعاذة باللّه من الشيطان.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [41: 36] وفي موضع آخر: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [7: 200] وقد تقدم: أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف، لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس. وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. كما قال اللّه تعالى.
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذلّ وعجز، ويسلّط عليه عدوه، فيدعوه إلى الانتقام، ويزينه له. فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر اللّه وما عنده على حظه العاجل. فكان المقام مقام تأكيد وتحريض. فقال فيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وأما في سورة الأعراف: فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين. وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس، غير مستعصى عليها. فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين. وبين قوله في حم المؤمن: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [40: 56].
وفي صحيح البخاري عن عدى بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: «كنت جالسا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ورجلان يستبّان. فأحدهما احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين. فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة باللّه من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما».
وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة.
وتقدم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا حين يصبح، كفته من كل شيء».
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: «وكّلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام. فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم- فذكر الحديث، إلى أن قال- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان».
وسنذكر إن شاء اللّه تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون اللّه وتأييده.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة: ففي الصحيح من حديث سهل بن عبد اللّه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان».
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن اللّه كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} مع آية الكرسي.
ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من قرأ حم المؤمن إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يسمي. ومن قرأهما حين يسمي حفظ بهما حتي يصبح».
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلّم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع: «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» مائة مرة.
ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من قال لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد. وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة. ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك».
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره اللّه عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر اللّه عز وجل.
ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن اللّه أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه عاد أن يبطئ بها. فقال عيسى: إن اللّه أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم.
فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ، وقعدوا على الشرف. فقال: إن اللّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا، وأن مثل من أشرك باللّه كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدّ إليّ. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن اللّه أمركم بالصلاة. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. فإن اللّه ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام. فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك. وأمركم بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا اللّه. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: وأنا آمركم بخمس اللّه أمرني بهن: السمع والطاعة. والجهاد.
والهجرة. والجماعة. فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم. فقال رجل: يا رسول اللّه، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام. فادعوا بدعوى اللّه الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد اللّه»
.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة. وله غير هذا الحديث.